الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)} فاتحة أنيقة في التنويه بالقرآن جعلت مقدمة لهذه السورة لأن القرآن جامع لما حوته وغيره من أصول الدين. ف {تَنزِيلُ} مصدر مراد به معناه المصدريّ لا معنى المفعول، كيف وقد أضيف إلى الكتاب وأصل الإِضافة أن لا تكون بيانية. وتنزيل: مصدر نزّل المضاعف وهو مشعر بأنه أنزله منجّماً. واختيار هذه الصيغة هنا للرد على الطاعنين لأنهم من جملة ما تعلّلوا به قولهم: {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32]. وقد تقدم الفرق بين المضاعف والمهموز في مثله في المقدمة الأولى. والتعريف في {الكتاب} للعهد، وهو القرآن المعهود بينهم عند كل تذكير وكل مجادلة. وأجرى على اسم الجلالة الوصف ب {العزيز الحكيمِ} للإِيماء إلى أن ما ينزل منه يأتي على ما يناسب الصفتين، فيكون عزيزاً قال تعالى: {وإنه لكتاب عزيز} [فصلت: 41]، أي القرآن، عزيز غالب بالحجة لمن كذّب به، وغالب بالفضل لما سواه من الكتب من حيث إن الغلبة تستلزم التفضل والتفوق، وغالب لبلغاء العرب إذ أعجزهم عن معارضة سورة منه، ويكون حكيماً مثل صفة منزِّله. والحكيم: إمّا بمعنى الحاكم، فالقرآن أيضاً حاكم عن معارضيه بالحجة، وحاكم على غيره من الكتب السماوية بما فيه من التفصيل والبيان قال تعالى: {مصدقاً لمن بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} [المائدة: 48]. وإمّا بمعنى: المحكِم المتقِن، فالقرآن مشتمل على البيان الذي لا يحتمل الخطأ، وإما بمعنى الموصوف بالحكمة، فالقرآن مشتمل على الحكمة كاتصاف منزّله بها. وهذه معان مرادة من الآية فيما نرى، على أن في هذين الوصفين إيماء إلى أن القرآن معجز ببلاغة لفظه وبإعجازه العلمي، إذا اشتمل على علوم لم يكن للناس علم بها كما بيّناه في المقدمة العاشرة. وفي وصف {الحَكِيمِ} إيماء إلى أنه أنزله بالحكمة وهي الشريعة {يؤتي الحكمة من يشاء} [البقرة: 269]. وفي هذا إرشاد إلى وجود التدبر في معاني هذا الكتاب ليتوصل بذلك التدبر إلى العلم بأنه حق من عند الله، قال تعالى: {سنريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53]. ومعنى {العَزيزِ الحكيمِ} في صفات الله تقدم في تفسير قوله تعالى: {فإن زللتم من بعد ما جاءئكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم} في سورة [البقرة: 209]. وافتتاح جملة {إنَّا أنزلنا إليكَ الكتَابَ بالحقّ} بحرف (إنَّ) مراعى فيه ما استعمل فيه الخبر من الامتنان. فيحمل حرف (إنّ) على الاهتمام بالخبر. وما أريد به من التعريض بالذين أنكروا أن يكون منزّلاً من الله فيحمل حرف (إنّ) على التأكيد استعمالاً للمشترك في معنييه. ولما في هذه الآية من زيادة الإِعلان بصدق النبي المنزل عليه الكتاب جدير بالتأكيد لأن دليل صدقه ليس في ذاته بل هو قائم بالإِعجاز الذي في القرآن وبغيره من المعجزات، فكان مقضى التأكيد موجوداً بخلاف مقتضى الحال في قوله: {تَنزيلُ الكتاببِ من الله}. فجملة {إنَّا أنزلنا إليك الكتابَ} تتنزل منزلة البيان لجملة {تَنزيلُ الكتاببِ من الله.} وإعادة لفظ {الكِتَابِ} للتنويه بشأنه جرياً على خلاف مقتضى الظاهر بالإِظهار في مقام الإِضمار. وتعدية {أنزَلْنَا} بحرف الانتهاء تقدم في قوله: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} في أول [البقرة: 4]. والباء في {بالحق} للملابسة، وهي ظرف مستقرّ حالاً من {الكتابِ}، أي أنزلنا إليك القرآن ملابساً للحق في جميع معانيه {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصلت: 42]. وفرع على المعنى الصريح من قوله: {إنَّا أنزلنا إليكَ الكتابَ بالحق} أن أمر بأن يعبد الله مخلصاً له العبادة. وفي هذا التفريع تعريض بما يناسب المعنى التعريضي في المفرّع عليه وهو أن المعرّض بهم أن يعبدوا الله مخلصين له الدين عليهم أن يدبَّروا في المعنى المعرض به. وهذا إيماء إلى أن إنزال الكتاب عليه نعمة كبرى تقتضي أن يقابلها الرسول صلى الله عليه وسلم بالشكر بإفراده بالعبادة، وإيماء إلى أن إشراك المشركين بالله غيره في العبادة كفر لنعَمِه التي أنعم بها، فإن الشكر صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله، وفي العبادة تحقيق هذا المعنى قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. فالمقصود من الأمر بالعبادة التوطئة إلى تقييد العبادة بحالة الإِخلاص من قوله {مُخلِصاً له الدينَ}، فالمأمور به عبادة خاصة، ولذلك لم يكن الأمر بالعبادة مستعملاً في معنى الأمر بالدوام عليها. ولذلك أيضاً لم يُؤت في هذا التركيب بصيغة قصر خلاف قوله: {بل الله فاعبد} [الزمر: 66] لأن المقصود هنا زيادة التصريح بالإِخلاص والرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يعبد غير الله. وقد توهم ابن الحاجب من عدم تقديم المعمول هنا أن تقديم المفعول في قوله تعالى: {بل الله فاعبد في آخر هذه السورة لا يفيد القصر وهي زلّة عالم. والإِخلاص: الإِمْحاض وعدم الشوب بمغاير، وهو يشمل الإِفراد. وسميت السورة التي فيها توحيد الله سورة الإِخلاص، أي إفراد الله بالإلهية. وأوثر الإِخلاص هنا لإِفادة التوحيد وأخصَّ منه وهو أن تكون عبادة النبي ربه غير مشوبة بحظ دنيوي كما قال تعالى: {قُلْ مَا أسْئَلُكُمْ عَلَيهِ مِن أجْرٍ} [ص: 86]. والدين: المعاملة. والمراد به هنا معاملة المخلوق ربّه وهي عبادته. فالمعنى: مخلصاً له العبادة غير خالط بعبادته عبادة غيره. وانتصب {مُخلصاً} على الحال من الضمير المستتر في {أعبد. ولما أفاد قوله: مُخلصاً له الدين} معنى إفراده بالعبادة لم يكن هنا مقتضضٍ لتقديم مفعول {أعبد الله} على عامله لأن الاختصاص قد استفيد من الحال في قوله: {مخلصاً له الدين}، وبذلك يبطل استناد الشيخ ابن الحاجب لهذه الآية في توجيه رَأيه بإنكار إفادة تقديم المفعول على فعله التخصيصَ، وتضعيفِه لاستدلال أيمة المعاني بقوله تعالى: {بل الله فاعبد} آخر السورة [66] بأنه تقديم لمجرد الاهتمام لورود فاعبد الله،} قال في «إيضاح المفصل» في شرح قول صاحب «المفصل» في الديباجة «الله أحمدُ على أن جعلني من علماء العربية»، الله أحمد على طريقة {إياك نعبد} [الفاتحة: 5] تقديماً للأهم، وما قيل: إنه للحصر لا دليل عليه والتمسك فيه بنحْو {بل الله فاعبد} [الزمر: 66] ضعيف لورود فاعبد الله ا ه. ونقل عنه أنه كتب في حاشيته على الإِيضاح} هنالك قوله: (لا دليل فيه على الحصر فإن المعبودية من صفاته تعالى الخاصة به، فالاختصاص مستفاد من الحال لا من التقديم) ا ه. وهو ضغث على إبَّالَة فإنه لم يقتصر على منع دليل شَهد به الذوق السليم عند أيمة الاستعمال وعلى سند منعه بتوهمه أن التقديم الذي لوحظ في مقام يجب أن يلاحظ في كل مقام، كأنَّ الكلام قد جُعل قوالب يؤتى بها في كل مقام، وذلك ينبو عنه اختلاف المقامات البلاغية، حتى جعل الاختصاص بالعبادة مستفاداً من القرينة لا من التقديم، كأن القرينة لو سلم وجودها تمنع من التعويل على دِلالة النطق.
{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)} استئناف للتخلص إلى استحقاقه تعالى الإِفراد بالعبادة وهو غرض السورة وأفاد التعليل للأمر بالعبادة الخالصة لله لأنه إذا كان الدين الخالص مستحقاً لله وخاصّاً به كان الأمر بالإِخلاص له مصيباً محزّه فصار أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة له مسبباً عن نعمة إنزال الكتاب إليه ومقتضَى لكونه مُستحق الإِخلاص في العبادة اقتضاء الكلية لجزئياتها. وبهذا العموم أفادت الجملة معنى التذييل فتحملت ثلاثة مواقع كلها تقتضي الفصل. وافتتحت الجملة بأداة التنبيه تنويهاً بمضمونها لتتلقاه النفس بشَرَاشِرِها وذلك هو ما رجّح اعتبار الاستئناف فيها، وجعل معنى التعليل حاصلاً تبعاً من ذكر إخلاص عام بعد إخلاص خاص وموردهما واحد. واللام في {لله الدينُ الخالصالدين * أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا} لام الملك الذي هو بمعنى الاستحقاق، أي لا يحقّ الدين الخالص، أي الطاعة غير المشوبة إلا له على نحو {الحمد لله} [الفاتحة: 2]. وتقديم المسند لإِفادة الاختصاص فأفاد قوله: {لله الدينُ الخالِصُ} أنه مستحقه وأنه مختص به. والدين: الطاعة كما تقدم. والخالص: السالم من أن يشوبه تشريك غيره في عبادته، فهذا هو المقصود من الآية. ومما يتفرع على معنى الآية إخلاص المؤمن الموحد في عبادة ربه، أي أن يعبد الله لأجله، أي طلباً لرضاه وامتثالاً لأمره وهو آيل إلى أحوال النية في العبادة المشار إليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكِحها فهجرته إلى ما هاجر إليه». وعرّف الغزالي الإِخلاص بأنه تجريد قصد التقرب إلى الله عن جميع الشوائب. والإِخلاص في العبادة أن يكون الداعي إلى الإِتيان بالمأمور وإلى ترك المنهي إرضاءَ الله تعالى، وهو معنى قولهم: لوجه الله، أي لقصد الامتثال بحيث لا يكون الحظ الدنيوي هو الباعث على العبادة مثل أن يعبد الله ليمدحه الناسُ بحيث لو تعطل المدح لترك العبادة. ولذا قيل: الرياء الشرك الأصغر، أي إذا كان هو الباعث على العمل، ومثل ذلك أن يقاتل لأجل الغنيمة فلو أيس منها ترك القتال؛ فأما إن كان للنفس حظ عاجل وكان حاصلاً تبعاً للعبادة وليس هو المقصودَ فهو مغتفر وخاصة إذا كان ذلك لا تخلو عنه النفوس، أو كان مما يُعين على الاستزادة من العبادة. وفي «جامع العتبية» في ما جاء من أن النية الصحيحة لا تبطلها الخَطرة التي لا تُملك. حدث العتبي عن عيسى بن دينار عن ابن وهب عن عطاء الخراساني أن معاذ بن جبل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ليس من بني سَلِمَة إلا مقاتل، فمنهم من القتالُ طبيعته، ومنهم من يقاتل رياء ومنهم من يقاتل احتساباً، فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة؟ فقال: يا معاذ بنَ جبل: «من قاتل على شيء من هذه الخصال أصلُ أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقُتل فهو شهيد من أهل الجنة». قال ابن رشد في «شرحه»: هذا الحديث فيه نص جليّ على أن من كان أصلُ عمله لله وعلى ذلك عقد نيته لم تضرّه الخطَرات التي تقع في القلب ولا تُملك، على ما قاله مالك خلافَ ما ذهب إليه ربيعةُ، وذلك أنهما سُئلا عن الرجل يُحِب أن يُلْقَى في طريق المسجد ويكره أن يلقَى في طريق السّوق فأنكر ذلك ربيعةُ ولم يعجبه أن يحب أحد أن يُرى في شيء من أعمال الخير. وقال مالك: إذا كان أولُ ذلك وأصلُه لله فلا بأس به إن شاء الله قال الله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} [طه: 39]، وقال: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} [الشعراء: 84]. قال مالك: وإنما هذا شيء يكون في القلب لا يُملك وذلك من وسوسة الشيطان ليمنعه من العمل فمن وجد ذلك فلا يُكْسِلْه عن التمادي على فعل الخير ولا يؤيسه من الأجر وليدفع الشيطان عن نفسه ما استطاع (أي إذا أراد تثبيطه عن العمل)، ويجدد النية فإن هذا غير مؤاخذ به إن شاء الله ا ه. وذكر قبل ذلك عن مالك أنه رأى رجلاً من أهل مصر يَسأل عن ذلك ربيعة. وذكر أن ربيعة أنكر ذلك. قال مالك: فقلت له ما ترى في التهجير إلى المسجد قبل الظهر؟ قال: ما زال الصالحون يهجّرون. وفي «جامع المعيار»: سئل مالك عن الرجل يذهب إلى الغزو ومعه فضل مال ليصيب به من فضل الغنيمة (أي ليشتري من الناس ما صحّ لهم من الغنيمة) فأجاب لا بأس به ونزع بآية التجارة في الحج قوله: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة: 198] وأن ذلك غير مانع ولا قادح في صحة العبادة إذا كان قصدُه بالعبادة وجهَ الله ولا يعد هذا تشريكاً في العبادة لأن الله هو الذي أباح ذلك ورفع الحرج عن فاعله مع أنه قال: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [الكهف: 110] فدلّ أن هذا التشريك ليس بداخل بلفظه ولا بمعناه تحتَ آية الكهف ا ه. وأقول: إن القصد إلى العبادة ليتقرب إلى الله فيسأله ما فيه صلاحه في الدنيا أيضاً لا ضير فيه، لأن تلك العبادة جعلت وسيلة للدعاء ونحوه وكل ذلك تقرب إلى الله تعالى وقد شرعت صلوات لكشف الضرّ وقضاء الحوائج مثل صلاة الاستخارة وصلاة الضرّ والحاجة، ومن المغتفر أيضاً أن يقصد العامل من عمله أن يدعو له المسلمون ويذكروه بخير. وفي هذا المعنى قال عبد الله بن رَواحة رضي الله عنه حين خروجه إلى غزوة مؤتة ودعَا له المسلمون حين ودّعوه ولمن معه بأن يردّهم الله سالمين: لكنني أسألُ الرحمان مغفرة *** وضَربَةً ذاتَ فرععٍ يَقذف الزبدا أو طعنة من يدي حرّان مجهزةً *** بحَربة تنفُذ الأحشاءَ والكبدا حتى يقولوا إذا مروا على حَدثي *** أرشَدَك الله من غَاز وقد رَشِدا وقد علمت من تقييدنا الحظ بأنه حظ دنيوي أن رجاء الثواب واتقاء العقاب هو داخل في معنى الإِخلاص لأنه راجع إلى التقرب لرضى الله تعالى. وينبغي أن تعلم أن فضيلة الإِخلاص في العبادة هي قضية أخصّ من قضية صحة العبادة وإجزائها في ذاتها إذ قد تعرُو العبادة عن فضيلة الإِخلاص وهي مع ذلك صحيحة مجزئة، فللإخلاص أثر في تحصيل ثواب العمل وزيادته ولا علاقة له بصحة العمل. وفي «مفاتيح الغيب»: وأما الإِخلاص فهو أن يكون الداعي إلى الإِتيان بالفعل أو الترك مجرد الانقياد فإن حصل معه داع آخر؛ فإمّا أن يكون جانب الداعي إلى الانقياد راجحاً على جانب الداعي المغاير، أو معادِلاً له، أو مرجوحاً. وأجمعوا على أن المُعادل والمرجوح ساقط، وأمّا إذا كان الداعي إلى الطاعة راجحاً على جانب الداعي الآخر فقد اختلفوا في أنه هل يفيد أو لا ا ه. وذكر أبو إسحاق الشاطبي: أن الغزالي أي في كتاب النية من الربع الرابع من «الإِحياء» يذهب إلى أن ما كان فيه داعي غير الطاعة مرجوحاً أنه ينافي الإِخلاص. وعلامته أن تصير الطاعة أخف على العبد بسبب ما فيها من غرض، وأن أبا بكر بن العربي أي في كتاب «سِراج المريدين» كما نقله في «المعيار» يذهب إلى أن ذلك لا يقدح في الإِخلاص. قال الشاطبي: وكان مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما، فالغزالي يلتفت إلى مجرد وجود اجتماع القصدين سواء كان القصدان مما يصح انفكاكهما أو لا، وابن العربي يلتفت إلى وجه الانفكاك). فهذه مسألة دقيقة ألحقناها بتفسير الآية لتعلقها بالإِخلاص المراد في الآية، وللتنبيه على التشابه العارض بين المقاصد التي تقارن قصد العبادة وبين إشراك المعبود في العبادة بغيره. {الخالص والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ}. عطف على جملة {ألا لله الدينُ الخالِصُ} لزيادة تحقيق معنى الإِخلاص لله في العبادة وأنه خلوص كامل لا يشوبه شيء من الإِشراك ولا إشراك الذين زعموا أنهم اتخذوا أولياءَ وعبدوهم حرصاً على القرب من الله يزعمونه عذراً لهم فقولهم من فساد الوضع وقلببِ حقيقة العبادة بأن جعلوا عبادة غير الله وسيلة إلى القرب من الله فنقضوا بهذه الوسيلة مقصدها وتطلبوا القربة بما أبْعَدَها، والوسيلة إذا أفضت إلى إبطال المقصد كان التوسل بها ضرباً من العبث. واسم الموصول مراد به المشركون وهو في محلّ رفع على الابتداء وخبره جملة {إنَّ الله يحكم بينهم}. وجملة {ما نعبدهم} مقول لقول محذوف لأن نظمها يقتضي ذلك إذ ليس في الكلام ما يصلح لأن يعود عليه نون المتكلم ومعه غيره، فتعين أنه ضمير عائد إلى المبتدأ، أي هم المتكلمون به وبما يليه، وفعل القول محذوف وهو كثير، وهذا القول المحذوف يجوز أن يقدر بصيغة اسم الفاعل فيكون حالاً من {الذين اتخذوا} أي قائلين: ما نعبدهم، ويجوز أن يقدر بصيغة الفعل. والتقدير: قالوا ما نعبدهم، وتكون الجملة حينئذٍ بدل اشتمال من جملة {اتَّخذوا} فإن اتخاذهم الأولياء اشتمل على هذه المقالة. وقوله: {إنَّ الله يحكم بينهم} وعيد لهم على قولهم ذلك فعلم منه إبطال تعللهم في قولهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله} لأن الواقع أنهم عبدوا الأصنام أكثر من عبادتهم لله. فضمير {بينَهُمْ} عائد إلى الذين اتخذوا أولياء. والمراد ب {ما هم فيه يختلفون} اختلاف طرائقهم في عبادة الأصنام وفي أنواعها من الأنصاب والملائكة والجنّ على اختلاف المشركين في بلاد العرب. ومعنى الحكم بينهم أنه يبين لهم ضلالَهم جميعاً يوم القيامة إذ ليس معنى الحكم بينهم مقتضياً الحكم لفريق منهم على فريق آخر بل قد يكون الحكم بين المتخاصمين بإبطال دعوى جميعهم. ويجوز أن يكون على تقدير معطوف على {بينهم} مماثل له دلت عليه الجملة المعطوف عليها وهي {ألا لله الدين الخالص}، لاقتضائها أن الذين أخلصوا الدين لله قد وافقوا الحق فالتقدير يحكم بينهم وبين المخلصين على حدّ قول النابغة: فما كان بين الخير لو جاء سالماً *** أبو حُجر إلا لياللٍ قلائلُ تقديره: بين الخير وبيني بدلالة سياق الرثاء والتلهف. والاستثناء في قوله: {إلاَّ ليقربونا} استثناء من علل محذوفة، أي ما نعبدهم لشيء إلا لعلة أن يقرّبونا إلى الله فيفيد قصراً على هذه العلة قصر قلب إضافي، أي دون ما شنعتم علينا من أننا كفرنا نعمة خالقنا إذ عبدنا غيره. وقد قدمنا آنفاً من أنهم أرادوا به المعذرة ويكون في أداة الاستثناء استخدام لأن اللام المقدرة قبل الاستثناء لام العاقبة لا لام العلة إذ لا يكون الكفران بالخالق علة لعاقل ولكنه صائر إليه، فالقصر لا ينافي أنهم أعدوهم لأشياء أخر إذا عدوهم شفعاء واستنجدوهم في النوائب، واستقسموا بأزلامهم للنجاح، كما هو ثابت في الواقع. والزلفى: منزلة القرب، أي ليقربونا إلى الله في منزلة القرب، والمراد بها منزلة الكرامة والعناية في الدنيا لأنهم لا يؤمنون بمنازل الآخرة، ويكون منصوباً بدلاً من ضمير {ليُقربونا} بدل اشتمال، أي ليقربوا منزلتنا إلى الله. ويجوز أن يكون {زلفى} اسم مصدر فيكون مفعولاً مطلقاً، أي قرباً شديداً. وأفاد نظم {هُم فيه يختلفون} أمرين أن الاختلاف ثابت لهم، وأنه متكرر متجدد، فالأول من تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، والثاني من كون المسند فعلاً مضارعاً. {يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كاذب}. يجوز أن يكون خبراً ثانياً عن قوله: {والذين اتخذوا من دونه أولياء} وهو كناية عن كونهم كاذبين في قولهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله} وعن كونهم كفّارين بسبب ذلك، وكناية عن كونهم ضالّين. ويجوز أن يكون استئنافاً بيانياً لأن قوله: {إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون} يثير في نفوس السامعين سؤالاً عن مصير حالهم في الدنيا من جرَّاء اتخاذهم أولياءَ من دونه، فيجاب بأن الله لا يهدي مَن هو كاذب كفار، أي يذرهم في ضلالهم ويمهلهم إلى يوم الجزاء بعد أن بَيّن لهم الدين فخالفوه. والمراد ب {مَن هو كاذبٌ كفَّارٌ} الذين اتخذوا من دونه أولياء، أي المشركين، فكان مقتضى الظاهر الإِتيان بضميرهم، وعدل عنه إلى الإضمار لما في الصلة من وصفهم بالكذب وقوة الكفر. وهداية الله المنفية عنهم هي: أن يتداركهم الله بلطفه بخلق الهداية في نفوسهم، فالهداية المنفية هي الهداية التكوينية لا الهداية بمعنى الإِرشاد والتبليغ وهو ظاهر، فالمراد نفي عناية الله بهم، أي العناية التي بها تيسير الهداية عليهم حتى يهتدوا، أي لا يوفّقهم الله بل يتركهم على رأيهم غضباً عليهم. والتعبير عنهم بطريق الموصولية لما في الموصول من الصلاحية لإِفادة الإِيماء إلى علة الفعل ليفيد أن سبب حرمانهم التوفيق هو كذبهم وشدة كفرهم. فإن الله إذا أرسل رسوله إلى الناس فبلغهم كانوا عندما يبلغهم الرسول رسالةَ ربه بمستوى متحِد عند الله بما هم عبيد مربوبون ثم يكونون أصنافاً في تلقّيهم الدعوة؛ فمنهم طالب هداية بقبول ما فهمه ويسأل عما جهله، ويتدبر وينظر ويسأل، فهذا بمحل الرضى من ربه فهو يعينه ويشرح صدره للخير حتى يشرق باطنه بنور الإِيمان كما قال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} [الأنعام: 125] وقال: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم} [الحجرات: 7، 8]. ولا جرم أنه كلما توغّل العبد في الكذب على الله وفي الكفر به ازداد غضب الله عليه فازداد بُعد الهداية الإلهية عنه، كما قال تعالى: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حقٌّ وجَاءَهُمُ البينات والله لا يَهْدِي القومَ الظِّالِمِين} [آل عمران: 86]. والتوفيق: خلق القدرة على الطاعة فنفي هداية الله عنهم كناية عن نفي توفيقه ولطفه لأن الهداية مسببة عن التوفيق فعبر بنفي المسبب عن نفي السبب. وكذبهم هو ما اختلقوه من الكفر بتأليه الأصنام، وما ينشأ عن ذلك من اختلاق صفات وهمية للأصنام وشرائع يدينون بها لهم. والكَفَّار: الشديد الكفر البليغُة، وذلك كفرهم بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبالقرآن بإعراضهم عن تلقّيه، والتجرد عن الموانع للتدبر فيه. وعلم من مقارنة وصفهم بالكذب بوصفهم بالأبلغية في الكفر أنهم متبالغون في الكذب أيضاً لأن كذبهم المذموم إنما هو كذبهم في كفرياتهم فلزم من مبالغة الكفر مبالغة الكذب فيه.
{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)} موقع هذه الآية موقع الاحتجاج على أن المشركين كاذبون وكفّارون في اتخاذهم أولياء من دون الله، وفي قولهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله} [الزمر: 3] وأن الله حرمهم الهدى وذلك ما تضمنه قوله قبله: {إن الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفَّارٌ} [الزمر: 3]، فقصد إبطال شركهم بإبطال أقواه وهو عدّهم في جملة شركائهم شركاءَ زعموا لهم بنوّة لله تعالى، حيث قالوا: {اتخذ الله ولداً} [البقرة: 116] فإن المشركين يزعمون اللاتَ والعزى ومناةَ بناتتِ الله قال تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى} [النجم: 19 21]. قال في «الكشاف» هنالك: «كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام (يعني هذه الثلاثة) بناتُ الله» وذكر البغوي عن الكلبي كان المشركون بمكة يقولون: الأصنام والملائكة بنات الله فخص الاعتقاد بأهل مكة، والظاهر أن ذلك لم يقولوه في غير اللات والعزّى ومناةَ، لأن أسماءها مؤنثة، وإلاّ فإن في أسماء كثير من أسماء أصنامهم ما هو مذكّر نحو ذي الخَلَصة، وذكر في «الكشاف» عند ذكر البسملة أنهم كانوا يقولون عند الشروع في أعمالهم: باسم اللات، باسم العزّى. فالمقصود من هذه الآية إبطال إلهية أصنام المشركين على طريقة المذهب الكلامي. واعلم أن هذه الآية والآيات بعدها اشتملت على حجج انفراد الله. ومعنى الآية: لو كان الله متخذاً ولداً لاختار من مخلوقاته ما يشاء اختياره، أي لاختار ما هو أجدر بالاختيار ولا يختار لبنوته حجارة كما زعمتم لأن شأن الاختيار أن يتعلق بالأحسن من الأشياء المختار منها فبطل أن تكون اللاتُ والعُزّى ومناةُ بناتتٍ لله تعالى، وإذا بطل ذلك عنها بطل عن سائر الأصنام بحكم المساواة أو الأحرى، فتكون {لو هنا هي الملقبة لو الصهيبية، أي التي شرطها مفروض فرضاً على أقصى احتمال وهي التي يُمثلون لها بالمثل المشهور: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، فكان هذا إبطالاً لما تضمنه قوله: {والذين اتَّخذوا من دونه إولياء ما نعبدهم} إلى قوله: {كَفَّار} [الزمر: 3]. وليس هو إبطالاً لمقالة بعض العرب: إن الملائكة بنات الله، لأن ذلك لم يكن من عقيدة المشركين بمكة الذين وجه الخطاب إليهم، ولا إبطالاً لبنوة المسيح عند النصارى لأن ذلك غير معتقَد عند المشركين المخاطبين ولا شعور لهم به، وليس المقصود محاجّة النصارى ولم يتعرض القرآن المكي إلى محاجّة النصارى. واعلم أنه بني الدليل على قاعدة استحالة الولد على الله تعالى إذ بُني القياس الشرطي على فرض اتخاذ الولد لا على فرض التولّد، فاقتضى أن المراد باتخاذ الولد التبنّي لأن إبطال التبنّي بهذا الاستدلال يستلزم إبطال تولد الابن بالأولى. وعزز المقصود من ذكر فعل الاتخاذ بتعقيبه بفعل الاصطفاء على طريقة مجاراة الخصم المخطئ ليغير في مهواة خطئه، أي لو كان لأحد من الله نسبة بنوة لكانت تلك النسبة التبنِّيَ لا غير إذ لا تتعقل بنوة لله غير التبنّي ولو كان الله متبنِّياً لاختار ما هو الأليق بالتبنّي من مخلوقاته دون الحجارة التي زعمتموها بنات لله. وإذا بطلت بنوة تلك الأصنام الثلاثة المزعومة بطلت إلهية سائر الأصنام الأخرى التي اعترفوا بأنها في مرتبة دون مرتبة اللات والعزّى ومناة بطريق الأوْلى واتفاققِ الخصمين فقد اقتضى الكلام دليلين: طوي أحدهما وهو دليل استحالة الولد بالمعنى الحقيقي عن الله تعالى، وذكر دليل إبطال التبنّي لما لا يليق أن يتبناه الحكيم. هذا وجه تفسير هذه الآية وبيان وقعها مما قبلها وبه تخرج عن نطاق الحيرة التي وقع فيها المفسرون فسلكوا مسالك تعسف في معناها ونظمها وموقعها، ولم يتم لأحد منهم وجه الملازمة بين شرط {لو وجوابها، وسكت بعضهم عن تفسيرها. فوقع في الكشاف} ما يفيد أن المقصود نفي زعم المشركين بنوة الملائكة وجعل جواب {لو محذوفاً وجعل المذكور في موضع الجواب إرشاداً إلى الاعتقاد الصحيح في الملائكة فقال: يعني لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع، ولم يصح لكونه (أي ذلك الاتخاذ) محالاً ولم يتأتَّ إلاّ أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده وقد فعل ذلك بالملائكة فغرّكم اختصاصه إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلاً منكم بحقيقته المخالفة لِحقائق الأجسام والأعراض. فجعل ما هو في الظاهر جواب لو مفيداً معنى الاستدراك الذي يَعقُب المقدَّمَ والتاليَ غالباً، فلذلك فسره بمرادفه وهو الاستثناء الذي هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده. وللتفتزاني بحث يقتضي عدم استقامة تقرير الكشاف} لدليل شرط {لو وجوابه، واستظهر أن لو صهيبية تبعاً لتقرير ذكره صاحب الكشف}. وبعد فإن كلام صاحب «الكشاف» يجعل هذه الآية منقطعة عن الآيات التي قبلها، فيجعلُها بمنزلة غرض مستأنف مع أن نظم الآية نظم الاحتجاج لا نظم الإِفادة، فكان محمل «الكشاف» فيها بعيداً. ومع قطع النظر عن هذا فإن في تقرير الملازمة في الاستدلال خفاء وتعسفاً كما أشار إليه الشَقَّار في كتابه «التقريب مختصرِ الكشاف». وقال ابن عطية: معنى اتخاذ الولد اتخاذ التشريف والتبنّي وعلى هذا يستقيم قوله: {لاصطفى} وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد (يعني اتخاذ النسل) فمستحيل أن يتوهم في جهة الله ولا يستقيم عليه قوله: {لاصطفى}. ومما يدل على أن معنى أن يتخذ الاصطفاء والتبني قوله: {ممَّا يَخْلُقُ} أي من محداثته ا ه وتبعه عليه الفخر. وبنى عليه صاحب «التقريب» فقال عقب تعقب كلام «الكشاف» «والأولى ما قيل: لو أراد أن يتخذ ولداً كما زعمتم لاختار الأفضل (أي الذكور) لا الأنقص وهنّ الإِناث». وقال التفتزاني في «شرح الكشاف»: هذا معنى الآية بحسب الظاهر، وذكر أن صاحب «الكشاف» لم يسلكه للوجه الذي ذكره التفتزاني هناك. والذي سلكه ابن عطية وإن كان أقرب وأوضح من مسلك «الكشاف» في تقرير الدليل لكنه يشاركه في أنه لا يصل الآية بالآيات التي قبلها وبنبغي أن لا تقطع بينها الأواصر، وكم ترك الأول للآخر. وجملة {سبحانه} تنزيه له عما نسبوه إليه من الشركاء بعد أن أبطله بالدليل الامتناعي عوداً إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذي فارقه من قوله: {فاعبد الله مخلصاً له الدين} [الزمر: 2]. وجملة {هو الله الواحد القهَّارُ} دليل للتزيه المستفاد من {سبحانه}. فجملة {هُوَ الله} تمهيد للوصفين، وذِكر اسمه العلم لإِحضاره في الأذهان بالاسم المختص به فلذلك لم يقل: هو الواحد القهّار كما قال بعدُ: {ألا هوَ العزيزُ الغفَّارُ} [الزمر: 5]. وإثبات الوحدانية له يبطل الشريك في الإلهية على تفاوت مراتبه، وإثبات {القَهَّارُ} يبطل ما زعموه من أن أولياءهم تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم. والقهر: الغلبة، أي هو الشديد الغلبة لكل شيء لا يغلبه شيء ولا يصرفه عن إرادته.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)} {خَلَقَ السماوات والارض بالحق يُكَوِّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ}. هذه الجملة بيان لجملة {هو الله الواحد القهار} [الزمر: 4] فإن خلق هذه العوالم والتصرف فيها على شدتها وعظمتها يبين معنى الوحدانية ومعنى القهّارية، فتكون جملة {هو الله الواحد القهار} ذات اتصالين: اتصاللٍ بجملة {لو أراد الله أن يتَّخِذَ ولداً} [الزمر: 4] كاتصال التذييل، واتصاللٍ بجملة {خلق السماوات والأرض بالحق} اتصالَ التمهيد. وقد انتقل من الاستدلال باقتضاء حقيقة الإلهية نفي الشريك إلى الاستدلال بخلق السماوات والأرض على أنه المنفرد بالخلق إذ لا يستطيع شركاؤهم خلق العوالم. والباء في {بالحقِّ} للملابسة، أي خلقها خلقاً ملابساً للحق وهو هنا ضد العبث، أي خلقهما خلقاً ملابساً للحكمة والصواب والنفع لا يشوب خلقهما عبث ولا اختلال قال تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 38 39]. وجملة {يُكَوّرُ الَّيْلَ} بيان ثان وهو كتعداد الجمل في مقام الاستدلال أو الامتنان. وأوثر المضارع في هذه الجملة للدلالة على تجدد ذلك وتكرره، أو لاستحضار حالة التكوير تبعاً لاستحضار آثارها فإن حالة تكوير الله الليل على النهار غير مشاهدة وإنما المشاهد أثرها وتجدد الأثر يدل على تجدد التأثير. والتكوير حقيقته: اللف والليُّ، يقال: كَوَّر العمامةَ على رأسه إذا لواها ولفَّها، ومثّلت به هنا هيئة غشيان الليل على النهار في جزء من سطح الأرض وعكسُ ذلك على التعاقب بهيئة كَوْر العمامة، إذ تغشى الليَّةُ الليَّةَ التي قبلها. وهو تمثيل بديع قابل للتجزئة بأن تشبه الأرض بالرأس، ويشبه تعاور الليل والنهار عليها بلف طيات العمامة، ومما يزيده إبداعاً إيثار مادة التكوير الذي هو معجزة علمية من معجزات القرآن المشار إليها في المقدمة الرابعة والموضحة في المقدمة العاشرة، فإن مادة التكوير جَائية من اسم الكُرة، وهي الجسم المستدير من جميع جهاته على التساوي، والأرض كروية الشكل في الواقع وذلك كان يجهله العرب وجمهور البشر يومئذٍ فأومأ القرآن إليه بوصف العَرضين اللذين يعتريان الأرض على التعاقب وهما النور والظلمة، أو الليل والنهار، إذ جعل تعاورهما تكويراً لأن عَرَض الكرة يكون كروياً تبعاً لذاتها، فلما كان سياق هذه الآية للاستدلال على الإلهية الحقِّ بإنشاء السماوات والأرض اختير للاستدلال على ما يَتبع ذلك الإِنشاء من خلق العَرضين العظيمين للأرض مادةُ التكوير دون غيرها من نحو الغشيان الذي عبر به في قوله تعالى: {يغشي الليل النهار} في سورة [الأعراف: 54]، لأن تلك الآية مسوقة للدلالة على سعة التصرف في المخلوقات لأن أولها {إن ربكم اللَّه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} [الأعراف: 54] فكان تصوير ذلك بإغشاء الليل والنهار خاصة لأنه دل على قوة التمكن من تغييره أعراض مخلوقاته، ولذلك اقتصر على تغيير أعظم عَرَض وهو النور بتسليط الظلمة عليه، لتكون هاته الآية لمن يأتي من المسلمين الذين يطلعون على علم الهيئة فتكون معجزة عندهم. وعطفُ جملة {ويُكورُ النهار على الليل} هو من عطف الجزء المقصود من الخبر كقوله: {ثيبات وأبكاراً} [التحريم: 5]. وتسخير الشمس والقمر هو تذليلهما للعمل على ما جعل الله لهما من نظام السير سير المتبوع والتابع، وقد تقدم في سورة الأعراف وغيرها. وعطفت جملة {وسخَّر الشمس والقمرَ} على جملة {يُكورُ الليل على النهارِ} لأن ذلك التسخير مناسب لتكوير الليل على النهار وعكسه فإن ذلك التكوير من آثار ذلك التسخير فتلك المناسبة اقتضت عطف الجملة التي تضمنته على الجملة التي قبلها. وجملة {كلٌّ يجري لأجَللٍ مسمى} في موقع بدل اشتمال من جملة {سَخر الشمس والقمرَ} وذلك أوضح أحوال التسخير. وتنوين {كلّ للعِوض، أي كل واحد. والجري: السير السريع. واللام للعلة. والأجل هو أجل فنائهما فإن جريهما لما كان فيه تقريب فنائهما جعل جريهما كأنه لأجل الأجل أي لأجل ما يطلبه ويقتضيه أجل البقاء، وذلك كقوله تعالى: {والشمس تجري لمستقرٍ لها} [يس: 38]، فالتنكير في (أجل) للإِفراد. ويجوز أن يكون المراد بالأجل أجل حياة الناس الذي ينتهي بانتهاء الأعمار المختلفة. وليس العمر إلا أوقاتاً محدودة وأنفاساً معدودة. وجري الشمس والقمر تُحسب به تلك الأوقات والأنفاس، فصار جريهما كأنه لأجل. قال أسقف نجران: مَنَع البقاءَ تقلُّبُ الشمس *** وطلوعها من حيث لا تُمسي وأقوالهم في هذا المعنى كثيرة فالتنكير في {أجلٍ} للنوعية الذي هو في معنى لآجاللٍ مُسماة. ولعل تعقيبه بوصف {الغَفَّارُ} يرجح هذا المحمل كما سيأتي. والمسمّى: المجعول له وَسم، أي ما به يُعين وهو ما عيّنه الله لأن يبلغ إليه. وقد جاء في آيات أخرى {كل يجري إلى أجل} [لقمان: 29] بحرف انتهاء الغاية، ولامُ العلة وحرفُ الغاية متقاربان في المعنى الأصلي وأحسب أن اختلاف التعبير بهما مجرد تفنن في الكلام. {مُّسَمًّى أَلا هُوَ العزيز}. استئناف ابتدائي هو في معنى الوعيد والوعد، فإن وصف {العزيزُ} كناية عن أنه يفعل ما يشاء لا غالب له فلا تُجدي المشركين عبادةُ أوليائهم، ووصفَ {الغَفَّارُ مؤذن باستدعائهم إلى التوبة باتباع الإِسلام. وفي وصف الغَفَّارُ} مناسبة لذكر الأجل لأن المغفرة يظهر أثرها بعد البعث الذي يكون بعد الموت وانتهاء الأجل تحريضاً على البدار بالتوبة قبل الموت حين يفوت التدارك. وفي افتتاح الجملة بحرف التنبيه إيذان بأهمية مدلولها الصريح والكنائي.
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} {الغفار * خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الانعام ثمانية أزواج يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى}. انتقال إلى الاستدلال بخلق الناس وهو الخلق العجيب. وأُدمج فيه الاستدلال بخلق أصلهم وهو نفس واحدة تشعب منها عدد عظيم وبخلق زوج آدم ليتقوّم ناموس التناسل. والجملة يجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير الجلالة، ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً تكريراً للاستدال. والخطاب للمشركين بدليل قوله بعده: {فأنَّى تُصرفونَ}، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب، ونكتته أنه لما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم بطريق الغيبة أقبَلَ على خطابهم ليُجمع في توجيه الاستدلال إليهم بين طريقي التعريض والتصريح. وتقدم نظير هذه الجملة في سورة الأعراف، إلاّ أن في هذه الجملة عطف قوله: {جعل منها زوجها} بحرف {ثم} الدال على التراخي الرتبي لأن مساقها الاستدلال على الوحدانية وإبطال الشريك بمراتبه، فكان خلق آدم دليلاً على عظيم قدرته تعالى وخلق زوجه من نفسه دليلاً آخر مستقل الدلالة على عظيم قدرته. فعطف بحرف {ثم الدال في عطف الجمل على التراخي الرتبي إشارة إلى استقلال الجملة المعطوفة بها بالدلالة مثل الجملة المعطوفة هي عليها، فكان خلق زوج آدم منه أدلّ على عظيم القدرة من خلق الناس من تلك النفس الواحدة ومن زوجها لأنه خلق لم تجرِ به عادة فكان ذلك الخلق أجلب لعجب السامع من خلق الناس فجيء له بحرف التراخي المستعمل في تراخي المنزلة لا في تراخي الزمن لأن زمن خلق زوج آدم سابق على خلق الناس. فأما آية الأعراف فمساقها مساق الامتنان على الناس بنعمة الإِيجاد، فذُكر الأصلان للناس معطوفاً أحدهما على الآخر بحرف التشريك في الحكم الذي هو الكون أصلاً لخلق الناس. وقد تضمنت الآية ثلاث دلائل على عظم القدرة خلق الناس من ذكر وأنثى بالأصالة وخلق الذكر الأول بالإِدماج وخلق الأنثى بالأصالة أيضاً. / زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الانعام ثمانية}. استدلال بما خلقه الله تعالى من الأنعام عطف على الاستدلال بخلق الإِنسان لأن المخاطبين بالقرآن يومئذٍ قوام حياتهم بالأنعام ولا تخلو الأمم يومئذ من الحاجة إلى الأنعام ولم تزل الحاجة إلى الأنعام حافّة بالبشر في قِوام حياتهم. وهذا اعتراض بين جملة {خلقَكم من نَفسسٍ واحدةٍ} وبين {يخلُقكم في بُطوننِ أُمهاتِكُم} لمناسبة أزواج الأنعام لزوج النفس الواحدة. وأدمج في هذا الاستدلال امتنان بما فيها من المنافع للناس لما دل عليه قوله: {لَكُم} لأن في الأنعام مواد عظيمة لبقاء الإِنسان وهي التي في قوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء إلى قوله: إلا بشق الأنفس} [النحل: 5 7] وقوله: {ومن أصوافها وأوبارها} الخ في سورة [النحل: 80]. والإِنزال: نقل الجسم من علوّ إلى سُفل، ويطلق على تذليل الأمر الصعب كما يقال: نزلوا على حكم فلان، لأن الأمر الصعب يتخيل صعب المنال كالمعتصم بقمم الجبال، قال خصَّاب بن المعلَّى من شعراء الحماسة: أنزلني الدهر على حكمه *** من شَاهق عاللٍ إلى خفض فإطلاق الإِنزال هنا بمعنى التذليل والتمكين على نحو قوله تعالى: {وأنزلنا الحديد} [الحديد: 25] أي سخرناه للناس فألهمناهم إلى معرفة قَيْنِه يتخذونه سيوفاً ودروعاً ورماحاً وعتاداً مع شدته وصلابته. ويجوز أن يكون إنزال الأنعام إنزالها الحقيقي، أي إنزال أصولها من سفينة نوح كقوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [الأعراف: 11]، أي خلقنا أصلكم وهو آدم، قال تعالى: {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين} [هود: 40] فيكون الإِنزال هو الإِهباط قال تعالى: {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك} [هود: 48]، فهذان وجهان حسنان لإِطلاق الإِنزال، وهما أحسن من تأويل المفسرين إنزال الأنعام بمعنى الخلق، أي لأن خلقها بأمر التكوين الذي ينزل من حضرة القدس إلى الملائكة. والأزواج: الأنواع، كما في قوله تعالى: {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} [الرعد: 3] والمراد أنواع الإِبل والغنم والبقر والمعز. وأطلق على النوع اسم الزوج الذي هو المثنّى لغيره لأن كل نوع يتقوّم كيانه من الذكر والأنثى وهما زوجان أو أطلق عليها أزواج لأنه أشار إلى ما أنزل من سفينة نوح منها وهو ذكر وأنثى من كل نوع كما تقدم آنفاً. {أزواج يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظلمات}. بدل من جملة {خلقكم من نفسسٍ واحدة} وضمير المخاطبين هنا راجع إلى الناس لا غير وهو استدلال بتطور خلق الإِنسان على عظيم قدرة الله وحكمته ودقائق صنعه. والتعبير بصيغة المضارع لإِفادة تجدد الخلق وتكرره مع استحضار صورة هذا التطور العجيب استحضاراً بالوجه والإِجمال الحاصل للأذهان على حسب اختلاف مراتب إدراكها، ويعلم تفصيله علماء الطب والعلوم الطبيعية وقد بينه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن أحدكم يُجمَع خلقُه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يُرسل إليه الملَك فينفخُ فيه الروح». وقوله: {خلقاً من بعدِ خلقٍ} أي طوراً من الخلق بعد طور آخر يخالفه وهذه الأطوار عشرة: الأول: طور النطفة، وهي جسم مُخاطِيّ مستدير أبيض خال من الأعضاء يشبه دودة، طولُه نحو خمسة مليميتر. الثاني: طور العلَقة، وهي تتكون بعد ثلاثة وثلاثين يوماً من وقت استقرار النطفة في الرحم، وهي في حجم النملة الكبيرة طولها نحو ثلاثة عشر مليمتراً يلوح فيها الرأس وتخطيطات من صُور الأعضاء. الثالث: طور المضغة وهي قطعَة حمراء في حجم النحْلة. الرابع: عند استكمال شهرين يصير طوله ثلاثة صانتميتر وحجم رأسه بمقدار نصف بقيته ولا يتميز عنقه ولا وجهه ويستمر احمراره. الخامس: في الشهر الثالث يكون طوله خمسة عشر صانتيميتراً ووزنه مائة غرام ويبدو رسم جبهته وأنفه وحواجبه وأظافره ويستمر احمرار جلده. السادس: في الشهر الرابع يصير طوله عشرين صانتيميتراً ووزنه (240) غرامات، ويظهر في الرأس زغب وتزيد أعضاؤه البطْنية على أعضائه الصدْرية وتتضح أظافره في أواخر ذلك الشهر. السابع: في الشهر السادس يصير طوله نحو ثلاثين صنتيمتراً ووزنه خمسمائة غرام ويظهر فيه مطبقاً وتتصلب أظافره. الثامن: في الشهر السابع يصير طوله ثمانية وثلاثين صنتيمتراً ويقلّ احمراراً جلده ويتكاثف جلده وتظهر على الجلد مادة دُهنية دسمة ملتصقة، ويطول شعر رأسه ويميل إلى الشقرة وتتقبب جمجمته من الوسط. التاسع: في الشهر الثامن يزيد غلظه أكثر من ازدياد طوله ويكون طوله نحو أربعين صنتيمتراً، ووزنه نحو أربعة أرطال أو تزيد، وتقوى حركته. العاشر: في الشهر التاسع يصير طوله من خمسين إلى ستين صنتيمتراً ووزنه من ستة إلى ثمانية أرطال. ويتم عظْمه، ويتضخّم رأسه، ويكثف شعره، وتبتدئ فيه وظائف الحياة في الجهاز الهضمي والرئة والقلب، ويصير نماؤه بالغذاء، وتظهر دورة الدم فيه المعروفة بالدورة الجَنِينِية. و (الظلمات الثلاث): ظلمة بطن الأم، وظلمة الرحم، وظلمة المَشِيمة، وهي غشاء من جلد يخلق مع الجنين محيطاً به ليقيه وليكون به استقلاله مما ينجر إليه من الأغذية في دورته الدموية الخاصة به دون أمه. وفي ذكر هذه الظلمات تنبيه على إحاطة علم الله تعالى بالأشياء ونفوذ قدرته إليها في أشدَّ ما تكون فيه من الخفاء. وانتصب {خَلْقاً} على المفعولية المطلقة المبينة للنوعية باعتبار وصفه بأنه {من بعدِ خلقٍ}، ويتعلق قوله: {في ظُلماتتٍ ثلاثٍ} ب {يَخلُقُكُمْ}. وقرأ الجمهور {أُمهاتُكُمْ} بضم الهمزة وفتح الميم في حالي الوصل والوقف وقرأه حمزة في حال الوصل بكسر الهمزة إتباعاً لكسرة نون {بُطُونِ} وبكسر الميم إتباعاً لكسر الهمزة. وقرأه الكسائي بكسر الميم في حال الوصل مع فتح الهمزة.. {ثلاث ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك لا إله إِلاَّ هُوَ فأنى}. بعد أن أُجري على اسم الله تعالى من الأخبار والصفات القاضية بأنه المتصرف في الأكوان كلها: جواهرها وأعراضها، ظاهرها وخفيها، ابتداءً من قوله: {خَلَقَ السمواتت والأرضَ بِالحَقِّ} [الأنعام: 73]، ما يرشد العاقل إلى أنه المنفرد بالتصرف المستحق العبادة المنفرد بالإلهية أعقب ذلك باسم الإِشارة للتنبيه على أنه حقيق بما يرد بعده من أجل تلك التصرفات والصفات. والجملة فذلكة ونتيجة أنتجتها الأدلة السابقة ولذلك فصلت. واسم الإِشارة لتمييز صاحب تلك الصفات عن غيره تمييزاً يفضي إلى ما يرد بعد اسم الإِشارة على نحو ما قرر في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة [البقرة: 5]. والمعنى: ذلكم الذي خلق وسخر وأنشأ الناس والأنعام وخلق الإِنسان أطواراً هو الله، فلا تشركوا معه غيره إذ لم تَبْق شبهة تَعذر أهلَ الشرك بشركهم، أي ليس شأنُه بمشابه حال غيره من آلهتكم قال تعالى: {أم جعلوا للَّه شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم} [الرعد: 16]. والإِتيان باسمه العلَم لإِحضار المسمّى في الأذهان باسم مُختصّ زيادة في البيان لأن حال المخاطبين نزل منزلة حال من لم يعلم أن فاعل تلك الأفعال العظيمة هو الله تعالى. واسم الجلالة خبر عن اسم الإِشارة. وقوله: {رَبُّكُم} صفة لاسم الجلالة. ووصفه بالربوبية تذكير لهم بنعمة الإِيجاد والإِمداد وهو معنى الربوبية، وتوطئة للتسجيل عليهم بكفران نعمته الآتي في قوله: {إن تكفروا فإن اللَّه غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر} [الزمر: 7]. وجملة {لَهُ المُلْكُ} خبر ثان عن اسم الإِشارة. والملك: أصله مصدر مَلَك، وهو مثلث الميم إلا أن مضمون الميم خصه الاستعمال بمُلك البلاد ورعاية الناس، وفيه جاء قوله تعالى: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} [آل عمران: 26]، وصاحبه: مَلِك، بفتح الميم وكسر اللام، وجمعه: ملوك. وتقديم المجرور لإِفادة الحصر الادعائي، أي الملك لله لا لغيره، وأما مُلك الملوك فهو لنقصه وتعرُّضه للزوال بمنزلة العدم، كما تقدم في قوله تعالى: {الحمد للَّه} [الفاتحة: 2]، وفي حديث القيامة: «ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض»، فالإلهية هي المُلك الحقّ، ولذلك كان ادعاؤهم شركاء للإله الحق خطأً، فكان الحصر الادعائي لإِبطال ادعاء المشركين. وجملة {لا إله إلاَّ هُوَ} بيان لجملة الحصر في قوله: {لَهُ المُلْكُ}. وفرع عليه استفهام إنكاري عن انصرافهم عن توحيد الله تعالى، ولما كان الانصراف حالةً استُفهم عنها بكلمة {أنّى التي هي هنا بمعنى (كيف) كقوله تعالى: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} [الأنعام: 101]. والصرف: الإِبعاد عن شيء، والمصروف عنه هنا محذوف، تقديره: عن توحيده، بقرينة قوله: {لا إله إلاَّ هُوَ}. وجعَلهم مصروفين عن التوحيد ولم يذكر لهم صارفاً، فجاء في ذلك بالفعل المبني للمجهول ولم يقل لهم: فأنى تنصرفون، نعياً عليهم بأنهم كالمَقُودين إلى الكفر غير المستقلين بأمورهم يصرفهم الصارفون، يعني أيمة الكفر أو الشياطين الموسوسين لهم. وذلك إلْهاب لأنفسهم ليكفّوا عن امتثال أيمتهم الذين يقولون لهم: {لا تسمعوا لهذا القرآن} [فصلت: 26]، عسى أن ينظروا بأنفسهم في دلائل الوحدانية المذكورة لهم. والمعنى: فكيف يصرفكم صارف عن توحيده بعدما علمتم من الدلائل الآنفة. والمضارع هنا مراد منه زمن الاستقبال بقرينة تفريعه على ما قبله من الدلائل.
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)} {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ}. أتبع إنكار انصرافهم عن توحيد الله بعد ما ظهر على ثبوته من الأدلة، بأن أُعلموا بأن كفرهم إن أصرّوا عليه لا يضر الله وإنما يضر أنفسهم. وهذا شروع في الإِنذار والتهديد للكافرين ومقابلتِه بالترغيب والبشارة للمؤمنين فالجملة مستأنفة واقعة موقع النتيجة لما سبق من إثبات توحيد الله بالإلهية. فجملة {إن تَكْفُرُوا} مبينة لإِنكار انصرافهم عن التوحيد، أي إن كفرتم بعد هذا الزمن فاعلموا أن الله غنيّ عنكم. ومعناه: غنيّ عن إقراركم له بالوحدانية، أي غير مفتقر له. وهذا كناية عن كون طلب التوحيد منهم لنفعهم ودفع الضر عنهم لا لنفع الله، وتذكيرهم بهذا ليُقبلوا على النظر من أدلة التوحيد. والخبر مستعمل كناية في تنبيه المخاطب على الخطأ من فعله. وقوله: {ولاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} اعتراض بين الشرطين لقصد الاحتراس من أن يتوهم السامعون أن الله لا يكترث بكفرهم ولا يعبأ به فيتوهموا أنه والشكرَ سواء عنده، ليتأكد بذلك معنى استعمال الخبر في تنبيه المخاطب على الخطأ. وبهذا تعيّن أن يكون المراد من قوله: {لِعِبَادِهِ} العباد الذين وجّه الخطاب إليهم في قوله: {إن تكفروا فإنَّ الله غنيٌّ عنكم}، وذلك جريٌ على أصل استعمال اللغة لفظ العباد، كقوله: {ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل} [الفرقان: 17]. الآية؛ وإن كان الغالب في القرآن في لفظ العباد المضاف إلى اسم الله تعالى أو ضميره أن يطلق على خصوص المؤمنين والمقرَّبين، وقرينة السياق ظاهرة هنا ظهوراً دون ظهورها في قوله: {أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء} [الفرقان: 17]. والرضى حقيقته: حالة نفسانية تعقُب حصولَ ملائم مع ابتهاج به، وهو على التحقيق فيه معنى ليس في معنى الإِرادة لما فيه من الاستحسان والابتهاج ويعبر عنه بترك الاعتراض، ولهذا يقابل الرضى بالسخط، وتقابل الإِرادة بالإِكراه، والرضى آئل إلى معنى المحبة. والرضى يترتب عليه نفاسة المرضيّ عند الراضي وتفضيله واختياره، فإذا أُسند الرضى إلى الله تعالى تعيّن أن يكون المقصود لازم معناه الحقيقي لأن الله منزّه عن الانفعالات، كشأن إسناد الأفعال والصفات الدالة في اللغة على الانفعالات مثل: الرحمان والرؤوف، وإسناد الغضب والفرح والمحبة، فيؤوَّل الرضى بلازمه من الكرامة والعناية والإِثابة إن عدي إلى الناس، ومن النفاسة والفضل إن عدّي إلى أسماء المعاني. وقد فسره صاحب «الكشاف» بالاختيار في قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام ديناً} في سورة [العقود: 3]. وفعل الرضى يُعدّى في الغالب بحرف (عن)، فتدخل على اسم عَين لكن باعتبار معنى فيها هو موجب الرضى. وقد يعدّى بالباء فيدخل غالباً على اسم معنى نحو: رضيت بحكم فلان، ويدخل على اسم ذات باعتبار معنى يدل عليه تمييز بعده نحو: رضيت بالله ربًّا، أو نحوه مثل: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [التوبة: 38]، أو قرينة مقام كقول قريش في وضع الحجر الأسود: هذا محمد قد رضينا به، أي رضينا به حَكَماً إذ هم قد اتفقوا على تحكيم أول داخل. ويعدّى بنفسه، ولعله يراعى فيه التضمين، أو الحذفُ والإِيصال، فيدخل غالباً على اسم معنى نحو: رضيت بحكم فلان بمعنى: أحببت حكمه. وفي هذه الحالة قد يُعدّى إلى مفعول ثان بواسطة لام الجر نحو: {ورضيت لكم الإِسلام ديناً} [المائدة: 3]، أي رضيته لأجلكم وأحببته لكم، أي لأجلكم، أي لمنفعتكم وفائدتكم. وفي هذا التركيب مبالغة في التنويه بالشيء المرضي لدى السامع حتى كأن المتكلم يرضاه لأجل السامع. فإذا كان قوله: {لِعبَادِه} عامّاً غير مخصوص وهو من صيغ العموم ثار في الآية إشكال بين المتكلمين في تعلُّق إرادة الله تعالى بأفعال العباد إذ من الضروريّ أن من عباد الله كثيراً كافرين، وقد أخبر الله تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر، وثبت بالدليل أن كل واقع هو مراد الله تعالى إذ لا يقع في مُلكه إلا ما يريد فأنتج ذلك بطريقة الشكل الثالث أن يقال: كفر الكافر مرادٌ لله تعالى لقوله تعالى: {ولو شاء ربك ما فعلوه} [الأنعام: 112] ولا شيء من الكفر بمرضي لله تعالى لقوله: {ولا يرضى لعباده الكُفر}، ينتج القياس بعض ما أراده اللَّه ليس بمرضي له فتعين أن تكون الإِرادة والرضى حقيقتين مختلفتين وأن يكون لفظاهما غير مترادفين، ولهذا قال الشيخ أبو الحسن الأشعري إن الإِرادة غير الرضى، والرضى غير الإِرادة والمشيئة، فالإِرادة والمشيئة بمعنى واحد والرضى والمحبة والاختيار بمعنى واحد، وهذا حمل لهذه الألفاظ القرآنية على معان يمكن معها الجمع بين الآيات قال التفتزاني: وهذا مذهب أهل التحقيق. وينبني عليها القول في تعلق الصفات الإلهية بأفعال العباد فيكون قولُه تعالى: {ولاَ يَرْضَى لعباده الكفر} راجعاً إلى خطاب التكاليف الشرعية، وقولُه: {ولو شاء ربك ما فعلوه} [الأنعام: 112] راجعاً إلى تعلق الإِرادة بالإِيجاد والخلق. ويتركب من مجموعهما ومجموع نظائر كل منهما الاعتقاد بأن للعباد كسباً في أفعالهم الاختيارية وأن الله تتعلق إرادته بخلق تلك الأفعال الاختيارية عند توجه كسب العبد نحوها، فالله خالق لأفعال العبد غير مكتسب لها. والعبدُ مكتسب غير خالق، فإن الكسب عند الأشعري هو الاستطاعة المفسرة عنده بسلامة أسباب الفعل وآلاته، وهي واسطة بين القدرة والجَبر، أي هي دون تعلق القدرة وفوق تسخير الجبر جمعاً بين الأدلة الدينية الناطقة بمعنى: أن الله على كل شيء قدير، وأنه خالق كل شيء، وبين دلالة الضرورة على الفرق بين حركة المرتعش وحركة الماشي، وجمعاً بين أدلة عموم القدرة وبين توجيه الشريعة خطابها للعباد بالأمر بالإِيمان والأعمال الصالحة، والنهي عن الكفر والسيئات وترتيب الثواب والعقاب. وأما الذين رأوا الاتحاد بين معاني الإِرادة والمشيئة والرضى وهو قول كثير من أصحاب الأشعري وجميع الماتريدية فسلكوا في تأويل الآية محمل لفظ لِعِبَادِهِ} على العام المخصوص، أي لعباده المؤمنين واستأنسوا لهذا المحمل بأنه الجاري على غالب استعمال القرآن في لفظة (العباد) لاسم الله، أو ضميره كقوله: {عيناً يشرب بها عباد اللَّه} [الإنسان: 6]، قالوا: فمن كفر فقد أراد الله كفره ومن آمن فقد أراد الله إيمانه، والتزم كلا الفريقين الأشاعرةِ والماتريدية أصلَه في تعلق إرادة الله وقدرته بأفعال العباد الاختيارية المسمّى بالكسب، ولم يختلفا إلا في نسبة الأفعال للعباد: أهي حقيقية أم مجازية، وقد عدّ الخلاف في تشبيه الأفعال بين الفريقين لفظياً. ومن العجيب تهويل الزمخشري بهذا القول إذ يقول: «ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضى بالكفر فقال: هذا من العام الذي أريد به الخاص الخ»، فكان آخر كلامه ردّاً لأوله وهل يعدّ التأويل تضليلاً أم هل يعد العام المخصوص بالدليل من النادر القليل. وأما المعتزلة فهم بمعزل عن ذلك كله لأنهم يثبتون القدرة للعباد على أفعالهم وأن أفعال العباد غير مقدورة لله تعالى ويحملون ما ورد في الكتاب من نسبة أفعال من أفعال العباد إلى الله أو إلى قدرته أنه على معنى أنه خالق أُصولها وأسبابها، ويحملون ما ورد من نفي ذلك كما في قوله: {ولا يرضى لعباده الكفر} على حقيقته ولذلك أوردوا هذه الآية للاحتجاج بها. وقد أوردها إمام الحرمين في «الإِرشاد» في فصل حَشر فيه ما استَدلّ به المعتزلة من ظواهر الكتاب. وقوله: {وإن تَشْكُروا يَرْضَهُ لكم} عطف على جملة {إن تَكْفُرُوا} والمعنى: وإن تشكروا بعد هذه الموعظة فتُقْلِعوا عن الكفر وتشكروا الله بالاعتراف له بالوحدانية والتنزيه يرض لكم الشكر، أي يجازيكم بلوازم الرضى. والشكرُ يتقوّم من اعتقاد وقول وعمل جزاءً على نعمة حاصلة للشاكر من المشكور. والضمير المنصوب في قوله: {يَرْضَهُ} عائد إلى الشكر المتصيّد من فعل {إن تشكروا}. {لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ}. كأنّ موقع هذه الآية أنه لما ذكر قبلها أن في المخاطبين كافراً وشاكراً وهم في بلد واحد بينهم وشائج القرابة والولاء، فربما تحرج المؤمنون من أن يمسَّهم إثم من جراء كفر أقربائهم وأوليائهم، أو أنهم خَشُوا أن يصيب الله الكافرين بعذاب في الدنيا فيلحق منه القاطنين معهم بمكة فأنبأهم الله بأن كفر أولئك لا ينقص إيمان هؤلاء وأراد اطمئنانهم على أنفسهم. وأصل الوزر، بكسر الواو: الثقل، وأطلق على الإِثم لأنه يلحق صاحبه تعبٌ كتعب حامل الثقل. ويقال: وَزَر بمعنى حمل الوِزر، بمعنى كسب الإِثم. وتأنيث {وَازِرَةٌ} و{أخرى} باعتبار إرادة معنى النفس في قوله: {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} [البقرة: 48]. والمعنى: لا تحمل نفس وزر نفس أخرى، أي لا تغني نفس عن نفس شيئاً من إثمها، فلا تطمع نفس بإعانة ذويها وأقربائها، وكذلك لا تخشى نفس صالحة أن تؤاخذ بتبعة نفس أخرى من ذويها أو قرابتها. وفي هذا تعريض بالمتاركة وقطع اللجاج مع المشركين وأن قصارى المؤمنين أن يرشدوا الضُّلاّل لا أن يلجئوهم إلى الإِيمان، كما تقدم في آخر سورة الأنعام. {أخرى ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ}. {ثمّ} للترتيبين الرتبي والتراخي، أي وأعظم من كون الله غنياً عنكم أنه أعدّ لكم الجزاء على كفركم وسترجعون إليه، وتقدم نظيرها في آخر سورة الأنعام. وإنما جاء في آية [الأنعام: 164] {بما كنتم فيه تختلفون لأنها وقعت إِثر آيات كثيرة تضمّنت الاختلاف بين أحوال المؤمنين وأحوال المشركين ولم يجيء مثل ذلك هنا، فلذلك قيل هنا: بما كنتم تعملونَ}، أي من كُفْر من كَفر وشُكر مَن شَكر. والإِنباء: مستعمل مجازاً في الإِظهار الحاصل به العلم، ويجوز أن يكون مستعملاً في حقيقة الإِخبار بأن يعلن لهم بواسطة الملائكة أعمالهم، والمعنى: أنه يظهر لكم الحق لا مرية فيه أو يخبركم به مباشرة، وتقدم بيانه في آخر الأنعام، وفيه تعريض بالوعد والوعيد. وجملة {إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتتِ الصُّدُورِ} تعليل لجملة {ينبئكم بما كنتم تعملون} لأن العليم بذات الصدور لا يغادر شيئاً إلا علمه فإذا أنبأ بأعمالهم كان إنباؤه كاملاً. وذات: صاحبة، مؤنث (ذُو) بمعنى صاحب صفة لمحذوف تقديره الأعمال، أي بالأعمال صاحبة الصدور، أي المستقرة في النوايا فعبر ب {الصُّدُورِ} عما يحلّ بها، والصدور مراد بها القلوب المعبر بها عما به الإِدراك والعَزم، وتقدم في قوله: {ولكن اللَّه سلم إنه عليم بذات الصدور في سورة} [الأنفال: 43].
|